هذا المقال بقلم الدكتور حبيب الملا، الرئيس التنفيذي لمكتب "بيكر ماكنزي-حبيب الملا" للمحاماة في الإمارات العربية المتحدة. إن الآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
يقوم النظام الرأسمالي الحالي على مبدأ مهم يتمثل في الانتقال السريع والدائم للسلع والخدمات والبشر. فعندما تتوقف صناعة الطيران مثلا تتوقف السياحة، وعندما تتوقف السياحة يتوقف تدفق العملات الأجنبية، وعندما يتوقف تدفق العملات الأجنبية يتوقف الاستيراد، وبالتبعية يقل الطلب وقد تتوقف المصانع. دائرة كبيرة وهائلة تعتمد على الحركة الدائمة بين مختلف دول العالم. وعندما تتوقف تلك الحركة ينهار الاقتصاد وتبدأ الأسواق المالية والبورصات في السقوط وهو الوضع الذي نعيشه اليوم بسبب جائحة كورونا.
وفي مثل هذه الأوضاع الاقتصادية هناك الكثير من الشركات الناجحة في مجالها ولكنها تعاني في هذه الأوضاع من نقص في السيولة مع استحقاق التزامات مالية حالة عليها أن تقوم بالوفاء بها. وتتطلع الشركات إلى الحكومات لتقديم حزم إنقاذ مالية تمكنها من البقاء والاستمرار في ممارسة عملها ونشاطها. ومعظم هذه الشركات هي من الشركات الصغيرة والمتوسطة والتى تشكل عصب الاقتصاد. فوفقا لوزارة الاقتصاد الإماراتية، تعتبر المشروعات الصغيرة والمتوسطة المُحرك الرئيس لاقتصاد الدولة، وتصنف كواحدة من أهم آليات التوجه الاستراتيجي لدعم الهيكل الإنتاجي، وتمثل ما يزيد على 94% من إجمالي عدد الشركات العاملة في الدولة موزعة بنسبة 73% في قطاع تجارة الجملة والتجزئة، 16% في قطاع الخدمات، و11% في قطاع الصناعة.
كما تجاوز عدد الشركات المصنفة كمشروعات صغيرة ومتوسطة في الإمارات 350 ألف شركة، توفر فرص عمل لما يزيد على 86% من إجمالي القوى العاملة في القطاع الخاص، وتسهم بما يفوق 60% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة. وفي إمارة دبي وحدها، تشكل الشركات الصغيرة والمتوسطة ما يقرب من %95 من جميع الشركات، وتستخدم %42 من القوة العاملة، وتساهم بحوالي %40 من الناتج المحلي الإجمالي لإمارة دبي. فهذه الشركات هي أكبر مشغل للعمالة ودافع للرسوم. ولقد أشار استبيان أجرته غرفة دبي مؤخرا أن 70% من هذه الشركات مهدد بالإفلاس والخروج من السوق بسبب جائحة كورونا.
إن إفلاس هذه الشركات وخروجها من الدورة الاقتصادية سيؤدى الى فقدان آلاف الوظائف وخسارة الحكومة للدخل الذي تجنيه من الرسوم وسيؤدي فى النهاية إلى انكماش الاقتصاد وهي مسألة يصعب الخروج منها. لذلك نرى ان الحكومات فى دول عديدة مستميتة في إنقاذ الشركات من خلال المنح والقروض، على أمل منح الشركات الوقت للبقاء على قيد الحياة لتعاود نشاطها عند انتهاء الوباء.
والحديث عن التحرزات للحد من تفشي كورونا في الشق الاقتصادي منه هو في نهاية المطاف لتحصين الاستهلاك قدر الإمكان. إذ أن انهيار الاقتصاد سيؤدي إلى المساس بالاستقرار الاجتماعي. وهكذا فإن الحرص لعودة الحياة إلى طبيعتها خروجا من جائحة كورونا مقصده في شقه الاقتصادي أن يعاود الناس حركة البيع والشراء، أي الاستهلاك، فبذلك تعود عجلة الاقتصاد إلى الدوران، لأن عجلة ذلك الدوران تعتمد حتما على وتيرة الاستهلاك. وفي حال تنشط الاستهلاك، فستكون النتيجة ارتفاع الإيرادات الضريبية، والعكس بالعكس.
ومما تقدم يتضح أن تحفيز الاستهلاك أمر يأخذ أولوية فيما يتصل بالاقتصاد، وله محددات، يمكن من خلالها تحفيزه، ومن ذلك حماية الوظائف وبالتالى الأجور للموظفين والأرباح لأصحاب الأعمال وما ينتج عنهما من مدخرات. لذلك فإن حماية الوظائف له أثر هام في مستوى الاستهلاك تبعا لتوقعات الشخص فيما يتصل بالمستقبل، فإن كان مطمئنا لتوالي الدخل أنفق، وفي حال عدم اليقين أمسك عن الإنفاق.
لذلك فإن حماية الشركات الصغيرة والمتوسطة أمر هام وجوهري لتعافي الاقتصاد فى مجمله وعودته إلى دورته الطبيعية. والسبيل إلى ذلك يكون بإنشاء صندوق دعم حكومي لهذه الشركات.
وهناك مقترح قد يساعد هذه الشركات دون أن تتحمل الحكومة أعباء مالية كبيرة بل قد يعود عليها ذلك الدعم بربح وذلك عن طريق تأسيس صندوق (تفاديا لإجراءات تسجيل الشركات المعقدة) يتكون رأسماله من حصص أو أسهم قيمة كل حصة أو سهم 10,000 درهم ويكون الحد الأدنى للاكتتاب في هذا الصندوق سهما واحدا (حصة واحدة) بهدف إتاحة الفرصة لأكبر شريحة من الجمهور والحد الأقصى 100,000 سهم أو حصة تفاديا لسيطرة مجموعة قليلة على الصندوق. ويمكن للحكومة أن تساهم بجزء من رأسمال الصندوق دعما له ولإكسابه المزيد من الثقة عن طريق هذه المساهمة الحكومية. ويكون رأس مال الصندوق المستهدف في المرحلة الأولى خمس مليارات درهم حتى يحدث التأثير المطلوب.
ويقوم هذا الصندوق بشراء حصص في رأس مال الشركات المحلية المجدية في قطاعات محددة مثل التجزئة والمطاعم والضيافة وفقا لقيمتها السوقية الحالية بعد دراسة جدوى سريعة لكل منها. وبذلك يتوفر لتلك الشركات سيولة نقدية عبارة عن رأس مال عامل هي في أمس الحاجة إليها في هذه الظروف. وتحويل هذه القروض إلى حقوق ملكية يعمل على تعزيز الميزانيات العمومية للشركات، وتبقي لدى الحكومة محفظة من حصص حقوق الملكية. وتكون النتيجة صندوق مقتنيات متنوع طويل الأجل يكون ممثلا للاقتصاد المحلي، حيث يمتلك جميع المواطنين حصة فيه. كما يمكن ان تكون الصيغة عبارة عن قرض قابل للتحويل الى أسهم.
وهناك سوابق لذلك منها تأميم المصارف السويدية في التسعينيات، وعمليات الإنقاذ المالية الضخمة في 2008 والتي تركت كثيرا من الحكومات الغربية بحصص حقوق الملكية في المصارف الكبيرة. وهناك مثال آخر في هونج كونج في 1998 إذ مع انهيار الأسواق خلال الأزمة المالية الآسيوية تدخلت الحكومة لتهدئة السوق واشترت نحو 11% من أسهم مؤشر هانج سينج بحسب السوق على مدى أسبوعين. وهناك أيضا الطريقة التي قدمت بها الولايات المتحدة القروض إلى آلاف الشركات المتعثرة واحتفظت بأسهم فيها في 1932 عبر مؤسسة تمويل إعادة الإعمار.
ويمكن أن يتم تعهيد إدارة هذا الصندوق لإحدى أقسام الاستثمار بإحدى البنوك المحلية ليقوم بدراسة الجدوى للمشاريع المتأهلة ووضع معايير الاستثمار فيها ودراسة الطلبات المقدمة وتلتزم الشركات التى يستثمر فيها الصندوق أو تحصل على تمويل منه بشروط منها الامتناع عن توزيعات أرباح، وأن تكون هناك حدود لإعادة شراء الأسهم والمكافآت، وكذلك تلتزم بدفع نسبة من أرباحها سنويا للصندوق لحين إعادة شراء الحصص كما يمتنع على الشركات توزيع أية أرباح أخرى أو سحب أية مبالغ لحين تسديد قيمة حصة الصندوق من رأسمال الشركة.
كما يجب إصدار قانون يجعل للصندوق الأولوية في الحجز على أموال الشركات المشاركة وقبل أي دائن آخر حتى لو كان دينه ممتازا.
ومع عودة وتيرة العمل إلى طبيعتها وتحسن وضع هذه الشركات ماليا يمكن للصندوق أن يبيع حصته في تلك الشركات بعد ارتفاع قيمتها السوقية بربح وتكون الأولوية في شراء حصص كل شركة لتلك الشركة نفسها.
وبذلك تكون الحكومة قد قدمت من خلال الصندوق خطة دعم مالي وفرت سيولة فورية للشركات دون تكلفة على الحكومة وكذلك يعود على المساهمين في هذا الصندوق عائد استثماري وفي الوقت نفسه يساهم هذا الصندوق في مد يد الحياة إلى الشركات المتعثرة لتواصل مسيرتها في دعم الاقتصاد.
نشر